مالي على مفترق طرق خطير
تعيش جمهورية مالي واحدة من أعقد أزماتها منذ سنوات، إذ تتصاعد حرب الاستنزاف التي تشنها الجماعات المسلحة المرتبطة بتنظيم القاعدة. لم تعد هذه الحرب مقتصرة على الأطراف بل امتدت لفرض حصار خانق على العاصمة، باماكو، منذ نحو شهرين. هذا التكتيك الجديد أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية بشكل كارثي، وانهيار الخدمات الأساسية، مما يهدد بانفجار داخلي وشيك.
إن هذا الحصار غير المسبوق يمثل تحولاً استراتيجيًا للقاعدة. فبدلاً من السعي لإسقاط النظام عسكريًا، تعتمد الجماعات المتشددة سياسة خنق باماكو من الداخل عبر تجويع السكان وقطع الإمدادات الحيوية. هذا التحليل الكاشف يغوص في الأبعاد السياسية والإنسانية لهذا الحصار، ويكشف أسرار تحالفات المجلس العسكري الجديدة ودلالات التحرك الأمريكي المتأخر.
استراتيجية خنق باماكو من الداخل لإسقاط النظام
إن استراتيجية القاعدة في مالي لا تستهدف الاشتباك المباشر، بل تستهدف نقطة ضعف النظام العسكري الحاكم: الدعم الشعبي والاستقرار الداخلي. شرح الخبير في شؤون الساحل والصحراء، عمر الأنصاري، لبرنامج “ستديو وان” أن الجماعات المتشددة “لا تمتلك القدرة اللوجستية أو العسكرية لإسقاط النظام مباشرة”، ولذلك لجأت إلى سياسة ‘التجويع والضغط’.
1. كيف يعمل الحصار الخانق على باماكو؟
يعمل الحصار كأداة ضغط سياسية أكثر من كونه أداة عسكرية تقليدية. وقد أدى هذا التكتيك إلى نتائج مدمرة:
- نقص حاد في الموارد: نقص الوقود، والغذاء، والدواء في باماكو ومحيطها.
- تدهور الخدمات الأساسية: شلل شبه كامل في الخدمات، من انقطاع الكهرباء المستمر إلى ندرة المواد الأساسية.
- انعدام الأمن الاجتماعي: انتشار جرائم الاختطاف وارتفاع معدلات الفدية.
2. الهدف السياسي: خلق انتفاضة داخلية
الهدف الأسمى للقاعدة من هذا الحصار هو إشعال غضب الشارع وخلق تأثير شعبي قوي قد يدفع باتجاه واحد من مسارين خطيرين:
- انقلاب عسكري جديد: ضباط الجيش قد يتحركون مجددًا لإزاحة المجلس العسكري الحالي تحت ضغط انهيار الأوضاع الإنسانية.
- انتفاضة شعبية واسعة: تحرك شعبي عارم ضد النظام الذي فشل في تأمين العاصمة، مما يجعل القاعدة “طرفًا مؤثراً في أي حل سياسي قادم”.
دور مجموعة فاغنر في حماية المجلس العسكري المالي

وسط هذا الخناق، استبدل المجلس العسكري حلفاءه الغربيين بروسيا وتركيا والصين، معتمدًا بشكل كبير على مجموعة فاغنر الروسية. يمثل هذا التحالف “صفقة مكلفة” تثير جدلاً واسعًا حول السيادة المالية لمالي.
التكلفة المرتفعة لتحالف فاغنر: 10 ملايين دولار شهريًا
- الدور الأساسي: هناك ما يُقدر بـ 1500 خبير عسكري روسي في باماكو، مهمتهم المعلنة هي حماية النظام من السقوط وتأمين قياداته.
- الثمن الباهظ: تتقاضى مجموعة فاغنر مبالغ هائلة مقابل هذه الحماية، تصل إلى 10 ملايين دولار شهريًا.
- المقابل الاقتصادي: في المقابل، تُمنح فاغنر امتيازات واسعة في مناجم الذهب وموارد طبيعية أخرى، مما يحول التحالف الأمني إلى شراكة اقتصادية استنزافية لمالي.
- المفارقة الاستراتيجية: كما أشار الأنصاري، فقد “طردت مالي من كانوا ينفقون عليها – مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي – وجلبت من يجب أن تنفق عليهم”، مما يزيد من العبء المالي والسياسي على الدولة.
مستقبل مالي بعد تمدد الجماعات المتشددة 500%
أصبحت مالي نموذجًا لحرب استنزاف طويلة الأمد. الأوضاع الأمنية تتدهور، فقد تمددت التنظيمات المتشددة في منطقة الساحل “بنسبة 500% خلال العام الماضي فقط”. هذا التمدد يطرح سؤالاً مقلقًا حول مستقبل البلاد والدور الذي ستحاول القاعدة أن تلعبه.
1. النموذج المحلي الجديد على غرار طالبان
الجماعات المتشددة تحاول تقديم نفسها كنموذج محلي للاستقرار في المناطق التي يغيب عنها سلطة الدولة أو التي تعاني من بطش الجيش وعناصر فاغنر. فقد أشارت تقارير إلى أن:
- بعض القرى طلبت من القاعدة حمايتها من الجيش المالي ومن عناصر فاغنر، مما يعكس فقدان الثقة التام في النظام المركزي.
- تستغل القاعدة الأزمة الإنسانية الخانقة لتثبيت أقدامها وكسب تأييد شعبي محدود عبر توفير الأمن المحلي أو توزيع الإمدادات بشكل انتقائي.
2. التحرك الأمريكي المتأخر: هل يمكن استعادة النفوذ؟
إن الخسارة الكبيرة في النفوذ الميداني بعد سلسلة الانقلابات في منطقة الساحل دفعت الولايات المتحدة للتحرك مؤخرًا.
- فقدان القواعد والنفوذ: كانت واشنطن تملك قواعد عسكرية مهمة في النيجر لمراقبة تحركات الإرهابيين، لكنها فقدت هذا النفوذ الميداني الحيوي.
- مؤشر التحول: نائب وزير الخارجية الأمريكي، كريستوفر لاندو، أجرى محادثة هاتفية مع وزير الخارجية المالي عبدالله ديوب. هذا التحرك هو مؤشر على تحول في الموقف الأمريكي من المجلس العسكري الحاكم، وربما محاولة لفتح قناة اتصال مجددًا.
أسئلة متكررة حول الأزمة المالية
هل الانقلاب العسكري الجديد حل لأزمة مالي الإنسانية؟
الجواب: على الرغم من أن الحصار قد يهدف إلى إحداث انقلاب جديد، فإن التجارب السابقة في مالي والساحل تظهر أن الانقلابات غالبًا ما تزيد من حالة عدم الاستقرار وتفاقم الأزمة الإنسانية، ولا تقدم حلاً مستدامًا للقضايا الأمنية أو الاقتصادية. الحل يكمن في انتقال مدني شامل ومستقر.
تأثير الحصار على أسعار الوقود والغذاء في مالي
الجواب: أدى الحصار إلى نقص حاد في هذه السلع وارتفاع جنوني في أسعارها، مما جعلها خارج متناول أغلبية السكان في باماكو والمناطق المحيطة. هذا الارتفاع يمثل ضغطًا اقتصاديًا مهولًا يزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية.
النظام محاصر، والتطرف يتمدّد
إن مالي اليوم محاصرة بين نارين: نظام عسكري محاصر من الخارج والداخل، وجماعات متطرفة تستغل الأزمة الإنسانية لتتمدد وتكسب الوقت. التحالفات الجديدة مع فاغنر لم تجلب الاستقرار بل زادت من العبء، بينما يحمل التحرك الأمريكي المتأخر بارقة أمل للحوار، لكنه قد يكون غير كافٍ لاحتواء حرب الاستنزاف الطويلة.
