عاد ملف التجارب النووية الفرنسية في الجزائر ليحتل صدارة التوتر بين الجزائر وباريس، حيث بدأت هيئة رئاسية جزائرية العمل الجدي على إيجاد حلول علمية لتطهير المواقع الملوثة. هذا التحرك تزامن مع رفض فرنسي متصلب لتسليم الخرائط الطبوغرافية التي تكشف أماكن دفن النفايات المشعة في الصحراء. الأمر يتجاوز السياسة، فخبراء يحذرون من آثار بيئية وصحية تمتد إلى خارج الحدود الجزائرية، جاعلين هذه الأزمة مسؤولية دولية ملحة.
السر المدفون: الخرائط الطبوغرافية وعمق الأضرار
أجرت فرنسا 17 تفجيراً نووياً في الصحراء الجزائرية خلال فترة الستينيات، مخلفة وراءها إشعاعات ونفايات مشعة تتطلب مئات السنين للتخلص منها. اليوم، يكمن لب المشكلة في رفض الحكومة الفرنسية تسليم الخرائط الطبوغرافية الدقيقة. هذه الخرائط هي المفتاح الوحيد لتحديد مواقع الدفن والنفايات المكتشفة وغير المكتشفة حتى اليوم.
هذا الموقف الفرنسي أثار استياء كبيراً في الجزائر. تحدث محمد لحسن زغيدي، منسق اللجنة الجزائرية للتاريخ والذاكرة، عن أهمية هذه الخرائط في حوار مع “سكاي نيوز عربية“، قائلاً:
“هذه الخرائط مهمة جداً لأنها الخرائط الحقيقية التي استعملتها فرنسا في الجزائر خلال تفجيراتها. وبالتالي تعتبر جزءاً من الملف المتعلق بهذه التفجيرات ومن حق المعتدى عليه أن يطلع على كل ما من شأنه أن يسبب أضراراً مستقبلية لأبناء البلاد”.
هذا يعني أن الجزائر لا تطالب بالاعتراف فقط، بل بالوثائق اللازمة لحماية شعبها من خطر مجهول يتربص تحت رمال الصحراء القاسية. إن مجرد فكرة وجود قنابل نووية مدفونة دون خرائط دقيقة تجعل قلوب الأهالي ترتجف خوفاً على مستقبل أولادهم.
آثار إشعاعية بلا حدود جغرافية
ما يزيد من خطورة التجارب النووية الفرنسية في الجزائر هو تأكيد الخبراء على أن التلوث البيئي والصحي الناتج عن هذه التفجيرات لا يبقى محصوراً داخل حدود دولة واحدة. إنه “مشكل عالمي”، بحسب رئيس الأكاديمية الجزائرية للعلوم والتكنولوجيات.
أوضح البروفيسور محمد هشام قارة، رئيس الأكاديمية الجزائرية للعلوم والتكنولوجيات، أن القضية تتعدى البيئة الجزائرية:
“قضية التفجيرات النووية ليست القضية التي تهم البيئة الجزائرية فحسب، لأن الآثار لا تعرف حدوداً جغرافية ولا حدوداً سياسية”.
وأضاف البروفيسور قارة أن الدراسات الميدانية تشير إلى أن هذه الآثار “ستتمدد وحسب رؤية الخبراء ودراسات ميدانية فإن هذه الآثار وصلت حتى إلى أوروبا والدول الإفريقية”. هذا التحذير يضع المسؤولية على عاتق المجتمع الدولي، وليس فقط على الجزائر وفرنسا. فالهواء والماء لا يحترمان حدود الدول.
ويؤكد الخبراء أن السبيل الوحيد حالياً هو تسخير التقدم العلمي لقياس مستويات التلوث المشع، والتقليل من التبعات الصحية على الإنسان والبيئة. العمل المتاح اليوم هو عمل علمي دقيق، يتطلب التعاون والشفافية.
قصص من الصحراء: مأساة البدو
تخيل حياة البدو الرحل في الصحراء الكبرى، تحت حرارة الشمس الحارقة وعواصف الغبار. لا يعلمون أين بالضبط يمكن أن تطأ أقدامهم أو قطعانهم أرضاً ملوثة بالإشعاع. إن غياب الخرائط يتركهم تحت رحمة الصدفة.
لاحظ مراسلنا في الجزائر أن هذا الملف أصبح يشغل بال كل مهتم بالصحة العامة. إنها مأساة تمتد لأجيال، حيث تتطلب النفايات المشعة مئات السنين لتتلاشى خطورتها.
الملف النووي: شرط تبون لاستئناف التعاون
لقد ربط الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، بناء علاقات طبيعية مع فرنسا بمدى استعدادها لـ “تحمل مسؤوليتها بخصوص تجاربها النووية في الجزائر”. هذا الربط السياسي يشير إلى أن الجزائر تستخدم هذا الملف كأولوية قصوى وليست مجرد مطالبة عابرة.
ففي حوار سابق مع صحيفة “لوبينيون” الفرنسية، ذكر تبون صراحة أن:
“تسوية القضايا المتعلقة بالتفجيرات النووية، وباستخدام الأسلحة الكيميائية، من طرف فرنسا في جنوب الجزائر، مسألة ضرورية لاستئناف التعاون الثنائي”.
هذا التطور يأتي بعد دعوة تبون للحكومة الفرنسية في نهاية عام 2024 إلى تنظيف الأماكن التي تلوثت بإشعاعات الذرة. الجزائر واضحة: مفتاح المستقبل هو الاعتراف الكامل بمسؤولية الماضي والتصرف بناءً على ذلك. الضغط ليس مجرد كلام، بل هو مفاوضات مرتبطة بـ الخرائط الطبوغرافية التي تمثل الحقيقة الكاملة للدمار.
مصير العلاقات الفرنسية الجزائرية في مهب الإشعاع
يضع ملف التجارب النووية الفرنسية في الجزائر العلاقات الثنائية عند مفترق طرق حاسم. فالجزائر ترفض فصل الجانب الإنساني والبيئي عن المصالح السياسية، وتتمسك بالخرائط كدليل مادي على مسؤولية فرنسا.
التطورات المتوقعة هي تصاعد الضغط الجزائري، بدعم من خبراء دوليين وبعض الدول الإفريقية المتأثرة. من المرجح أن يتحول الملف إلى قضية في المحافل الدولية إذا استمر الرفض الفرنسي، مما يزيد من عزلة باريس الأخلاقية والسياسية في هذه القضية الحساسة. لا يمكن لفرنسا أن تتجاهل طويلاً مأساة تمتد لستين عاماً وتهدد سلامة الأجيال القادمة.
أسئلة شائعة (FAQ)
ما هي المطالب الجزائرية الرئيسية من فرنسا بخصوص التجارب النووية؟
تطالب الجزائر فرنسا بشكل رئيسي بتسليم الخرائط الطبوغرافية لمواقع دفن النفايات المشعة والكيميائية، والمساعدة في تطهير المواقع الملوثة بالكامل.
كم عدد التفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا في الجزائر؟
أجرت فرنسا 17 تفجيراً نووياً في الصحراء الجزائرية خلال فترة الستينيات، والتي ما زالت تترك آثاراً إشعاعية خطيرة.
لماذا يعتبر هذا الملف قضية عالمية وليست جزائرية فقط؟
يؤكد الخبراء، مثل البروفيسور محمد هشام قارة، أن الآثار الإشعاعية لا تعرف حدوداً جغرافية وقد وصلت إلى دول إفريقية وأوروبية، مما يجعلها مشكلة بيئية وصحية دولية.
