أصدرت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM)، الذراع الإقليمي لتنظيم القاعدة في غرب إفريقيا، بياناً سياسياً مفصلاً يمثل خروجاً جذرياً عن خطابها المسلح التقليدي. هذه الوثيقة الجديدة، التي صدرت بالتزامن مع استمرار الحصار الاقتصادي للعاصمة باماكو، لا تقتصر على الدعوة لانتفاضة شعبية ضد السلطة العسكرية الحاكمة، بل تحمل تحذيراً موجهاً إلى تركيا بضرورة وقف دعمها بطائرات مسيّرة للجيش المالي. إن هذا التحول في استراتيجية القاعدة في مالي يعكس رغبة التنظيم في إعادة تعريف نفسه كفاعل سياسي يسعى لفرض شرعية جديدة، مما يهدد بإعادة رسم المشهد الأمني والسياسي في منطقة الساحل الأفريقي بأكملها.
جدول المحتويات
لغة غير مسبوقة: المطالب السياسية وتهميش “الإرهاب”
شهدت الوثيقة الأخيرة لجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM) استخدام لغة سياسية ودبلوماسية غير مسبوقة في تاريخ الجماعات المسلحة المتشددة في منطقة الساحل. لقد تجاوزت الجماعة سياق الإدانة التقليدي لتدخل في مجال اتهام الجيش المالي ومجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية بارتكاب “مجازر” ضد المدنيين، وصولاً إلى المطالبة بتحقيق دولي في هذه الانتهاكات.
ويُعَد هذا الانتقال دليلاً واضحاً على سعي الجماعة لإثبات “شرعية” إجرائية على غرار التنظيمات السياسية، وذلك باستغلال السردية الحقوقية الدولية. وقد توج هذا الخطاب بدعوتين أساسيتين: أولهما دعوة صريحة لانتفاضة شعبية في باماكو، وثانيهما الإعلان عن هدف إقامة “حكومة إسلامية”. هذا التبني الصريح للأهداف السياسية المحلية يمثل محاولة لتصوير الجماعة كفصيل قادر على التعامل السياسي مع القوى الداخلية والخارجية، بعيداً عن صورة التنظيم المتشدد المنغلق.
ويؤكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة باماكو، محمد أغ إسماعيل، أن البيان هو “ترويج سياسي بامتياز”، موضحاً أن الجماعة بدأت منذ العام الماضي في تغيير خطابها لاستغلال عواطف المواطنين وتقريب نفسها منهم، عبر الظهور بمظهر الجماعة السياسية لا المتشددة. هذا الترويح يهدف إلى المشاركة في الحكم مستقبلاً عبر خلق توترات مع النظام الحالي والرهان على انتفاضة شعبية قد تؤدي إلى نظام جديد يقبل التفاوض معها.
التحول الاستراتيجي: من العمليات المسلحة إلى الحكم البديل
يكشف التحول في استراتيجية القاعدة في مالي عن رؤية أعمق من مجرد بيان صحفي، حيث باتت الجماعة ترى نفسها “سلطة بديلة” لها الحق في إصدار بيانات سياسية موجهة إلى الداخل والخارج. وهذا التغيير يأتي بعد أشهر من النجاح التكتيكي المتمثل في فرض حصار اقتصادي فعلي على باماكو، العاصمة، مما أثبت قدرتهم على إحداث شلل اقتصادي وخدمي خارج نطاق العمليات العسكرية المباشرة.
دلائل التغيير في الخطاب والمظهر
هذا التحول لم يقتصر على النصوص، بل شمل رموز الجماعة أيضاً:
- تغيير الأعلام: أشار محمد أغ إسماعيل إلى أن الجماعة “غيرت لون العلم من الأسود إلى الأبيض”، وهي خطوة رمزية قوية تهدف إلى التخلي عن اللون المرتبط بـ”الجهاد العالمي” والتشدد، والتوجه نحو لون يرمز للصفاء أو التسامح (حسب تفسيرهم الجديد).
- التواصل العرقي: شرعت الجماعة في التواصل والتجنيد من مختلف المكونات الإثنية في مالي، في محاولة لدمج نفسها في النسيج الاجتماعي والسياسي، وتقديم نفسها كممثل وطني شامل وليس كفصيل إقليمي أو عرقي محدود.
- تغيير النهج: تأكيد التنظيم على “استمرار نهجه في مسالمة من سالمهم والكف عن من كف عنهم من أي طرف كان”، هو محاولة لفتح الباب أمام التفاوض، وهي خطوة استراتيجية تتطلب فك الارتباط التنظيمي الكامل أو الجزئي بتنظيم القاعدة العالمي للحصول على “ضمانات وطنية ودولية” تقبل بجلوسها على طاولة الحوار.
ويوضح أغ إسماعيل أن هدف الجماعة هو المشاركة في السلطة، لكن ذلك يتوقف على قبول جزء من مطالبها، مثل “الاعتراف بدور القضاء الإسلامي في بعض المناطق” التي تسيطر عليها الجماعة. وهذا يفتح الباب أمام نموذج حكم “الظلال” أو “الإمارات غير الرسمية” المشابه لما تم رصده في مناطق أخرى من العالم.
رسائل مشفرة: استهداف تركيا وتفكيك حلفاء باماكو
الجانب الأبرز والأكثر حساسية في البيان هو توجيه رسالة حادة إلى تركيا، مطالبة إياها بـ”الكف عن مساندة قتلة الأطفال والنساء والأبرياء”. هذا الانتقاد المباشر يضع حليفاً دولياً رئيسياً للسلطة العسكرية في باماكو (المجلس العسكري) تحت الضغط.
التحدي التركي: تعتبر تركيا مورداً رئيسياً للمسيّرات القتالية في إفريقيا، حيث تمتلك مالي ما لا يقل عن 8 طائرات من طراز “بيرقدار” وطائرات “أكينجي”. وقد لعبت هذه المسيّرات التركية دوراً محورياً في عمليات الجيش المالي العسكرية الأخيرة، مما أضعف قبضة الجماعات المتشددة في محاولتها لفرض السيطرة على الطرق والمناطق.
ويرى المحلل السياسي محمد مادي غاباكتي أن هذه الرسالة تهدف بوضوح إلى “خلخلة حلفاء باماكو، في ظل استمرار الحصار الاقتصادي على العاصمة”. ويشير إلى أن طائرات **** “بيرقدار” لعبت دوراً محورياً ضد الجماعات المتشددة، مما يجعل تركيا هدفاً استراتيجياً في خطاب القاعدة الجديد.
قراءة الرسالة المشفرة: إن استهداف تركيا تحديداً، يتجاوز البعد التكتيكي البحت، ليلامس أبعاداً استراتيجية أوسع تتعلق بالصراع على النفوذ في إفريقيا:
- صراع النفوذ: محاولة القاعدة استغلال التنافس بين القوى الكبرى (روسيا وتركيا) في المنطقة.
- إضعاف شرعية الحكومة: من خلال تصوير حلفاء الحكومة كـ”داعمين للمجازر” والانتهاكات، تسعى القاعدة إلى تجريد السلطة الحاكمة من شرعيتها أمام الشارع المالي والمجتمع الدولي.
عوامل الضعف والقوة: أين يقف الشارع المالي؟
على الرغم من قوة البيان وشراسة طموحات القاعدة السياسية، فإن الشارع المالي يمثل حاجزاً طبيعياً أمام هذا التحول. يؤكد الخبراء أن “الشارع في باماكو يعارض الفكر المتطرف، مما يقلل من فرص نجاح هذا المسار”.
نقاط ضعف الاستراتيجية:
- رفض الأيديولوجيا: حتى مع تحسين الصورة، تظل الأيديولوجيا المتطرفة لتنظيم القاعدة عقبة رئيسية أمام القبول الشعبي الواسع، خاصة في المناطق الحضرية التي شهدت انفتاحاً نسبياً.
- الخوف من فاغنر: وجود مجموعة فاغنر الروسية واستغلال القاعدة للانتهاكات المزعومة قد يجذب بعض المتعاطفين، لكنه أيضاً يزيد من حالة الاستقطاب الأمني الحادة التي قد تعجل بالقمع العسكري لأي انتفاضة شعبية.
- جذب الاستياء: تراهن الجماعة على استغلال حالة الاستياء العام من الوضع الاقتصادي والسياسي المتدهور في البلاد، خاصة بعد الحصار الطويل الذي فرضته على العاصمة.
فرص القاعدة للنجاح:
- توصيات الحوار: أشار أغ إسماعيل إلى أن “المؤتمرات الوطنية التي عقدت في مالي أوصت نصياً بضرورة الحوار مع الإرهابيين المحليين، وعلى رأسهم إياد أغ غالي وأمادو كوفا”. هذه التوصيات توفر غطاءً محلياً لخطوات التفاوض المستقبلية.
- التفكك الحكومي: كلما زادت حدة الخلافات الداخلية أو الفشل الاقتصادي للحكومة العسكرية، زادت مساحة القاعدة لتقديم نفسها كبديل منظم، حتى لو كان ذلك على أساس القضاء الإسلامي أو الحكم الإقليمي.
المخاطر الإقليمية والعالمية: تداعيات استراتيجية القاعدة في مالي على الشرق الأوسط
لطالما اهتم جمهور سوريانت، وخاصة الجالية السورية في أوروبا والخليج، بالتطورات المتعلقة بالتنظيمات العابرة للحدود، وأي تحولات في استراتيجية القاعدة في مالي تحمل تداعيات محتملة على منطقة الشرق الأوسط (التي يتدخل فيها نفس الفاعلين).
دروس من التحول السياسي للقاعدة في إفريقيا
- نموذج الحكم غير المركزي: إذا نجحت القاعدة في مالي في فرض الاعتراف بـ “القضاء الإسلامي” أو “الحكم الذاتي” في مناطق سيطرتها، فإن هذا سيعزز نموذجاً جديداً للتنظيمات المتشددة في مناطق النزاع، حيث تتخلى عن السعي للسيطرة على العواصم لصالح ترسيخ حكمها على الأطراف. هذا النموذج يجد صداه في مناطق خارجة عن السيطرة المركزية في سوريا وغيرها.
- الصراع الروسي-التركي: إن مهاجمة القاعدة لأداة النفوذ التركي (المسيّرات) والتحالف الضمني للحكومة مع النفوذ الروسي (فاغنر)، يعكس تبلور الصراع الجيوسياسي بين هذين الحليفين/الخصمين في مناطق النزاع العالمية. إن ما يجري في باماكو قد يكون صورة مصغرة للتنافس الذي يؤثر بشكل مباشر على جبهات سورية وليبية.
- إعادة تدوير المقاتلين: مع تزايد الضغوط الأمنية العالمية، فإن فك الارتباط السياسي الذي تسعى إليه القاعدة في مالي قد يكون مجرد غطاء لتجنيد وإعادة توجيه المقاتلين الأجانب إلى بؤر صراع أخرى، مما يشكل خطراً أمنياً على دول الجوار والشتات الأوروبي الذي يضم عدداً كبيراً من السوريين.
إن انتقال جماعة JNIM من مجرد تهديد أمني إلى منافس سياسي للحكومة، يعزز القناعة بأن مكافحة الإرهاب لم تعد تقتصر على العمل العسكري البحت، بل تحتاج إلى استراتيجية شاملة تتعامل مع الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتيح لهذه التنظيمات النمو. وفي هذا السياق، يبقى مصير باماكو رهناً بقدرة السلطة الحاكمة على تفكيك الحصار وإعادة بناء الشرعية قبل أن تنجح استراتيجية القاعدة في مالي الجديدة في اختراق جدار العاصمة.
قراءات ذات صلة:
- فضيحة تهريب الأسلحة في أوروبا.. شحنة صواريخ روسية وأميركية تتجه لإسرائيل
- جريمة قتل سورية وابنتها في النمسا.. اعتقال مشتبه بهما في إنسبروك
- مراكز البيانات في الفضاء: هل ينقذ “السحاب الفضائي” سباق الذكاء الاصطناعي من أزمة الطاقة الأرضية؟
- الترسانة الصاروخية الإيرانية: هل تعوّض طهران خسائر الميدان بالتصعيد؟
