تتصاعد حدة التصريحات الإيرانية حول تعزيز الترسانة الصاروخية الإيرانية إلى مستويات غير مسبوقة، متزامنة مع ضغوط دولية متزايدة بشأن ملفها النووي. يشير هذا التزامن إلى سياسة “رفع السقف” لردع أي ضربة عسكرية إسرائيلية أو أمريكية محتملة. يستكشف هذا التحليل ما إذا كانت طهران تعوّض عبر هذا الخطاب ما تخسره بالفعل في الميدان من ثغرات دفاعية، أم أنها تدخل مرحلة جديدة من الجهوزية العسكرية، معتمِدةً على لغة مزدوجة تحاول طمأنة الغرب من جهة، وتأكيد قدراتها على الردع من جهة أخرى.
الخطاب المزدوج: رفع سقف الردع بالتزامن مع الغموض النووي
تُظهر طهران براعة سياسية في توظيف التصعيد الكلامي كجزء أصيل من استراتيجيتها التفاوضية والدفاعية، خصوصاً في لحظة إقليمية تتسم بالهشاشة. حيث تتقاطع فيها ضغوط الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن البرنامج النووي مع حسابات الاستعداد لجولة صراع جديدة مع تل أبيب وواشنطن.
في الأسابيع الأخيرة، كثّف المسؤولون الإيرانيون من حدة الخطاب حول الترسانة الصاروخية الإيرانية، متوعدين بردود غير مسبوقة، وذلك تزامنًا مع تزايد التوقعات بقرب صدور قرار جديد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية ينتقد سلوكها النووي. هذا التصعيد يأتي من طهران في محاولة لردع أي سيناريو ضربة عسكرية مرتبطة بالملف النووي، في حين يؤكد وزير الخارجية عباس عراقجي أن ترسانة إيران اليوم تفوق بكثير قدراتها خلال أي مواجهة سابقة.
رسائل طهران للغرب وإسرائيل
السياسة الإيرانية تقوم على خطاب ذي وجهين لخدمة أهداف متناقضة ظاهرياً: إبقاء باب التفاوض مع الغرب مفتوحاً، وفي الوقت ذاته، تعزيز صورة الردع أمام إسرائيل.
- طمأنة الغرب: عبر تصريحات رسمية، يؤكد نائب وزير الخارجية سعيد خطيب زاده أن البرنامج النووي “سليم وينبغي حمايته”، بينما يصرح عراقجي بأن تخصيب اليورانيوم “متوقف حالياً بسبب الضربات التي تعرضت لها المنشآت”. هذه التصريحات تهدف إلى سحب الذرائع من القوى الغربية لفرض عقوبات إضافية أو تصعيد عسكري مباشر.
- ردع إسرائيل: في المقابل، يشدد المتحدث باسم الحرس الثوري العميد علي محمد نائيني على أن “القوة الصاروخية هي الضامن الوحيد لحماية البلاد”، مشيراً إلى أن التجربة الأخيرة أثبتت “خطأ الاعتقاد بأن المفاوضات تمنع الحرب”. هذه الرسائل موجهة بالدرجة الأولى إلى تل أبيب التي ترى المرحلة الحالية “فرصتها الذهبية”.
هذا المزيج من التصريحات يحوّل الملف النووي إلى مجرد “ورقة تفاوض” ضمن الأجندة الإيرانية، يتم استخدامها لتبرير استمرار تطوير القوة الصاروخية التقليدية كأداة ردع أولية.
أوهام “ألفي صاروخ”: القدرة العملياتية في الميزان
الرقم الذي يتداوله المسؤولون الإيرانيون عن القدرة على إطلاق ألفي صاروخ دفعة واحدة يثير تساؤلات حول دقة الأرقام وحقيقتها العملياتية على الأرض. ففي حين أن طهران تمتلك أنواعاً مختلفة من الصواريخ، يرى الخبراء أن هذا الرقم أقرب إلى “ردع إعلامي” يهدف إلى بناء الحاجز النفسي أمام الخصوم.
صواريخ “شهاب” و”ذو الفقار”: سجل المواجهات السابقة
خلال المواجهات الأخيرة، استخدمت إيران بعضاً من صواريخها المتطورة مثل:
- “شهاب 3” (Shahab 3): صاروخ باليستي متوسط المدى.
- “فاتح 110” (Fateh 110): صاروخ باليستي قصير المدى وعالي الدقة.
- “ذو الفقار” (Zulfiqar): صاروخ بعيد المدى يُعتقد أنه يحمل رؤوساً حربية ذات قدرة تدميرية أكبر.
ومع ذلك، يشير السجل العملياتي إلى أن طهران لم تتجاوز في أي مواجهة سابقة سقف تقرير عن عدد الصواريخ 200 صاروخ في عملية واحدة.
اقتباس خبير (محمد غروي): “المنطقة تعيش لحظة شديدة الحساسية بعد حرب إيران وإسرائيل الأخيرة، وكل شيء وارد في ظل ارتفاع منسوب التوتر الإقليمي والتصعيد المستمر بين الطرفين. إسرائيل تنظر إلى المرحلة الحالية باعتبارها ‘فرصتها الذهبية’ لاستهداف إيران”. – محمد غروي، مدير مركز الجيل الجديد للإعلام.
ثغرات القدرة الدفاعية: أسباب التركيز على التصعيد الكلامي
يأتي التركيز على الترسانة الصاروخية الإيرانية كغطاء على ثغرات دفاعية فعلية ظهرت في الآونة الأخيرة. وقد كشف مدير مركز الجيل الجديد للإعلام، محمد غروي، أن اليوم الأول بعد توقف الحرب شهد جهوداً مكثفة لسد الثغرات الأمنية والعسكرية، خصوصاً فيما يتعلق بالصواريخ والقادة الذين قتلوا خلال الحرب.
هذه الجهود تشمل:
- سد الثغرات التقنية: العمل على منع تكرار سيناريو اختراق مشابه لـ”البيجر” (في لبنان)، والذي كشف عن قطعة مستوردة كان يمكن أن تدمر برنامجاً صاروخياً كاملاً.
- إعادة تنظيم القيادة: تأمين أماكن آمنة للقيادات العسكرية لضمان سرعة اتخاذ القرار في حال التعرض لهجوم مباغت.
إن الاعتراف الضمني بهذه الثغرات يدفع طهران إلى الاعتماد أكثر على قوة الكلمة و”الردع الكلامي” لتعويض النقص في القدرات العملياتية أو التعرض للاختراق التقني، ما يحافظ على هيبتها الإقليمية في أوساط حلفائها.
سيناريوهات ما بعد التوتر: من يقترب من “الفرصة الذهبية”؟
التحليل الأعمق للموقف يذهب إلى قراءة نوايا الطرف الإسرائيلي الذي يرى في تراجع قوة طهران الداخلية والخارجية نتيجة العقوبات والضربات فرصة لإكمال ما بدأه في الحرب الأخيرة.
الاستعداد للضربة الأولى: سد الثغرات وتأمين القيادات
أنجزت إيران خلال فترة زمنية قياسية لا تتجاوز 4 أو 5 أشهر ما كان من المفترض أن يستغرق سنتين، بهدف تأمين جاهزيتها للرد على أي هجوم محتمل. وهذا يشمل استعدادها لإطلاق الصواريخ الجديدة في اللحظات الأولى إذا تعرضت لهجوم.
اقتباس خبير (محمد غروي): “إيران أنجزت خلال 4 أو 5 أشهر فقط ما كان يجب أن يستغرق سنتين… إيران ستكون جاهزة لإطلاق الصواريخ الجديدة في اللحظات الأولى إذا تعرضت لهجوم، مع تأمين أماكن آمنة للقيادات العسكرية لضمان سرعة اتخاذ القرار.”
هذا الاستعداد لا ينبع من نية هجومية، بل من “عقلية دفاعية” تدرك أن الضربة الأولى قد تكون حاسمة، وأن الخطر الوجودي لا يهدد إيران وحدها بل يشمل إسرائيل أيضاً، التي يعاني مجتمعها واقتصادها وجيشها من الإنهاك نتيجة التصعيد.
التحالفات الإيرانية: التعاون مع روسيا والصين
كجزء من استراتيجية الردع الشاملة، عززت طهران تعاونها العسكري والتقني مع كل من روسيا والصين. هذا التعاون لا يقتصر على صفقات الأسلحة، بل يمتد إلى تبادل الخبرات التكنولوجية لسد الثغرات التي كشفت عنها الهجمات السابقة، خاصة في مجال أنظمة الاتصالات تقرير عن التعاون الصيني الإيراني.

يتضح أن الترسانة الصاروخية الإيرانية تمثل ورقة قوة متعددة الأوجه: هي أداة ردع عسكرية، ومنصة للتفاوض، وغطاء للجهود المكثفة لسد الثغرات الميدانية. طهران لا تريد إغلاق باب التفاوض ولا خسارة ورقة الردع، ولذلك ستستمر في هذا الخطاب المزدوج حتى تتضح السيناريوهات الإقليمية التي تتراوح بين ضربات محدودة قد تؤدي إلى إسقاط النظام الإيراني أو العودة إلى طاولة المفاوضات بشروط أكثر تشدداً. القراءة السياسية تشير إلى أن كل الأطراف تستخلص الدروس وتستعد، لكن مفتاح التصعيد ليس في يد طهران بقدر ما هو في حسابات إسرائيل وواشنطن.
