تعيش الولايات المتحدة حالة انقسام اقتصادي حادة، حيث يقود قطاع التكنولوجيا والرقائق طفرة نمو هائلة، بينما تعاني القطاعات التقليدية من التباطؤ. يثير هذا الاعتماد المفرط مخاوف جدية حول تشكل فقاعة الذكاء الاصطناعي التي، حال انفجارها، قد لا تكتفي بضرب أسواق المال فحسب، بل قد تهدد الأمن القومي الأميركي ومكانة واشنطن التكنولوجية أمام الصين. يستعرض هذا التحليل آراء كبار الخبراء حول احتمالات تكرار سيناريو “دوت كوم”، وتأثير أزمة الطاقة وسلاسل التوريد على استدامة هذا الزخم.
جدول المحتويات (Table of Contents)
1. اقتصادان في دولة واحدة: الرابحون والخاسرون
تشير البيانات الاقتصادية لعام 2025 إلى أن الاقتصاد الأميركي بات يسير بسرعتين متباعدتين. فمن جهة، يجني مطورو الذكاء الاصطناعي وصانعو الرقائق مئات المليارات من الدولارات، وتنتشر مراكز البيانات كالفطر في أنحاء البلاد، مما يخلق وظائف برواتب ممتازة للمبرمجين والتقنيين. ومن جهة أخرى، تعاني القطاعات التقليدية مثل التصنيع وبناء المنازل من تسريح الموظفين وتباطؤ النمو، وسط تراجع ثقة المستهلك وارتفاع الأسعار.
هذا الانقسام خلق هشاشة هيكلية؛ حيث بات النمو الاقتصادي مرهوناً بشكل شبه كامل بمسار فقاعة الذكاء الاصطناعي. ووفقاً لتقرير نشرته “نيويورك تايمز”، فإن “كل ما يرتبط بالذكاء الاصطناعي مزدهر، بينما لا يزدهر أي شيء آخر تقريباً”.
هيمنة العمالقة السبعة
تتجلى خطورة الموقف في سوق الأسهم، حيث تشكل سبع شركات فقط (بما فيها إنفيديا، مايكروسوفت، وألفابت) أكثر من ثلث قيمة مؤشر “ستاندرد آند بورز 500”. شركة “إنفيديا” وحدها تجاوزت قيمتها السوقية حاجز الـ 5 تريليونات دولار، وهو رقم يعكس حجم الرهان الهائل على المستقبل. يقول الخبير الاقتصادي في “بنك أوف أميركا“، أديتيا بهاف: “إذا كانت الأسر التي استفادت من أداء هذه الشركات هي المسيطرة على الإنفاق، فإن بيع الأسهم قد يكون مؤلماً للغاية للاقتصاد”.
نذير “دوت كوم”: هل يعيد التاريخ نفسه؟
مع تضخم التقييمات، يستحضر المحللون شبح أزمة “دوت كوم” في مطلع الألفية. يوضح جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة “Cedra Markets”، أن فقاعة الذكاء الاصطناعي تشكل المحرك الأساسي للأسواق، محذراً من أن أي تعثر قد يؤدي إلى “موجة إفلاسات كبيرة، خاصة للشركات ذات التقييمات المبالغ فيها أو المديونية المرتفعة”.
ويرى يرق أن النسبة الأكبر من الشركات الناشئة في هذا المجال قد لا تملك فرصاً للاستمرار، بينما ستبقى الشركات الكبرى ذات “الرسملة القوية” هي الناجية الوحيدة. ويضيف أن الأسعار الحالية مبنية على توقعات أرباح مستقبلية قد لا تتحقق، مما يجعل السوق عرضة لهبوط حاد عند أي صدمة.
معضلة الطاقة: العقبة الفيزيائية أمام الطموح الرقمي

بعيداً عن الأرقام المالية، يواجه قطاع الذكاء الاصطناعي تحديات فيزيائية ولوجستية قد تفرمل نموه. يؤكد الدكتور أحمد بانافع، خبير الذكاء الاصطناعي بجامعة سان هوزيه، أن “أزمة الطاقة” الناتجة عن الاستهلاك الشره لمراكز البيانات تشكل تهديداً حقيقياً.
أبرز التهديدات البنيوية:
- شبكة الكهرباء المتهالكة: تحذر التقارير من أن الشبكة الأميركية قد لا تستطيع مواكبة الطلب المتزايد بنسبة 45% سنوياً لبناء مراكز البيانات.
- سلاسل التوريد: الاعتماد الكلي على الرقائق يجعل أي تأخير في المصانع الجديدة ضربة قاصمة للقطاع.
- الاستهلاك المائي: تبريد الخوادم يستهلك كميات هائلة من المياه، مما يثير مشاكل بيئية في ولايات جافة مثل كاليفورنيا وأريزونا.
آراء الخبراء: بين “الفقاعة” والضرورة الاستراتيجية
تتباين الآراء حول مصير هذه الطفرة، بين من يراها فقاعة مالية حتمية الانفجار، ومن يراها ضرورة للأمن القومي لا يمكن السماح بسقوطها.
- راي داليو (مؤسس بريدجواتر): يرى بوضوح أننا “في منطقة الفقاعة”، لكنه ينصح بعدم البيع الفوري، بل بتنويع المحافظ الاستثمارية (مثل الذهب)، مشيراً إلى أن الفقاعة لم تُوخز بعد لكن عناصر تفجيرها موجودة.
- سام ألتمان (OpenAI): أقر بأن المستثمرين قد يكونون “متحمسين جداً” على المدى القصير، مما يشير إلى إدراك قادة القطاع للمبالغة في التقييمات.
- الدكتور أحمد بانافع: يميل إلى سيناريو “التباطؤ المرحلي” بدلاً من الانهيار التام. السبب؟ لأن الذكاء الاصطناعي تحول إلى ركيزة لـ الأمن القومي الأميركي في مواجهة الصين، مما يعني استمرار الدعم الحكومي والإنفاق الفيدرالي لضمان التفوق التكنولوجي.
هل نحن أمام انهيار أم تصحيح؟
تشير المعطيات إلى أن الاقتصاد الأميركي يرقص على حافة الهاوية مع فقاعة الذكاء الاصطناعي. إن انفجار هذه الفقاعة – إن حدث – لن يكون مجرد تصحيح مالي، بل زلزالاً اقتصادياً يضرب ثروات الأسر، ويقلص الإنفاق الاستهلاكي، وقد يفقد واشنطن ميزتها التنافسية.
ومع ذلك، فإن الطابع الاستراتيجي لهذه التكنولوجيا قد يوفر “شبكة أمان” حكومية تمنع الانهيار الكامل. المستقبل القريب سيكشف ما إذا كانت هذه الشركات قادرة على تحويل “الوعود الرقمية” إلى أرباح حقيقية تبرر هذه الأرقام الفلكية، أم أننا بانتظار درس اقتصادي قاسٍ جديد.
