هل يمكن أن يتحول مصدر رزقك إلى فخ مميت في لحظة؟ هذا هو الواقع الأليم الذي يواجهه الكثيرون في المناطق السورية التي مزقتها سنوات الصراع. في كل ركن، وفي كل كومة من الخردة، يتربص خطر صامت يعرف باسم مخلفات الحرب غير المنفجرة في سوريا. هذه الذخائر المنسية ليست مجرد بقايا تاريخية، بل هي قنابل موقوتة تهدد الحياة المدنية وتعطل جهود التعافي، وتفرض كلفة بشرية واقتصادية لا يمكن تجاهلها في عام 2025.
قبل أيام قليلة، تجسّد هذا الخطر الفتاك مجدداً في ريف حلب الغربي. لقد أسفرت محاولة يائسة لتفكيك إحدى القذائف عن إصابات بالغة وخطيرة لثلاثة عمال، وصلت بعضها إلى حد بتر الأطراف، ليصبحوا بذلك أرقاماً جديدة تُضاف إلى سجل الضحايا المروع لهذه الكارثة المستمرة. إن هذه الحادثة المأساوية، التي وقعت بالقرب من مدينة دارة عزة، تضع الضوء مجدداً على ضرورة التوعية القصوى بالتعامل مع هذه الأجسام، وتؤكد على الدور الحاسم لمنظمات الطوارئ مثل الدفاع المدني السوري. ولكن الأهم من ذلك، فإنها تثير تساؤلات حول الأسباب الاقتصادية العميقة التي تدفع بأشخاص لمهنة تفكيك القذائف غير المنفجرة القاتلة.
حادثة دارة عزة: تفاصيل انفجار القذيفة المأساوية
تعد قصة العمال الثلاثة في دارة عزة مثالاً صارخاً على فجوة الخطر الاقتصادي. ففي يوم الإثنين الموافق 20 أكتوبر 2025، كان هؤلاء العمال يحاولون تفكيك قذيفة غير منفجرة في مركز متخصص بتجميع الخردوات. بالنسبة لهم، تمثل هذه الخردة، بما في ذلك الذخائر، مواد خام يمكن بيعها مقابل بضعة دولارات، وهي في الغالب الفارق بين الجوع والبقاء في ظل الظروف الاقتصادية القاسية.
ومع ذلك، لم تسِر الأمور كما خططوا. فبمجرد محاولة التعامل مع الجسم المتفجر، حدث الانفجار. لقد أدت قوة القذيفة الهائلة إلى إصابات جسيمة، بما في ذلك حالات بتر للأطراف، ما يشير إلى أنهم كانوا يتعاملون مع جسم عسكري ذي سعة تدميرية كبيرة. لقد سارع المدنيون في المنطقة إلى إسعاف المصابين، مؤكدين بذلك التكافل المجتمعي في مواجهة الكوارث.
ومع ذلك، فإن المشهد المروع بعد الانفجار استلزم تدخلاً متخصصاً. فور تلقي البلاغ، سارعت فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) إلى الموقع. كان هدفهم مزدوجاً: أولاً، التأكد من عدم وجود مصابين آخرين أو جثث تحت الأنقاض، وثانياً، عزل الموقع والتحذير من أي متفجرات متبقية قد تشكل خطراً إضافياً. علاوة على ذلك، قاموا بتوثيق الحادث لجمع بيانات دقيقة حول طبيعة الذخيرة. تُظهر هذه الحادثة، بكل أسف، أن التكلفة الحقيقية للحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار، بل تستمر في حصد الأرواح والأطراف لسنوات عديدة قادمة.
الدور الحاسم للدفاع المدني السوري في الاستجابة والتوعية
لا يمكننا الحديث عن أخطار الذخائر غير المنفجرة دون الإشادة بالدور الذي تلعبه فرق الدفاع المدني السوري. إنهم يمثلون خط الدفاع الأول ضد هذه المخاطر الخفية. بعد حادثة دارة عزة، كثفت المنظمة تحذيراتها الموجهة للأهالي، مشددة على مبدأ أساسي للسلامة: عدم لمس، أو نقل، أو تفكيك مخلفات الحرب والألغام تحت أي ظرف.
بالإضافة إلى ذلك، أوضح الدفاع المدني أن أفضل إجراء يمكن اتخاذه عند العثور على أي جسم مشبوه هو الإبلاغ الفوري عنه. لا ينبغي التعامل مع هذا الجسم بأي شكل من الأشكال، ويجب على المدنيين الابتعاد عنه وتأمين محيطه قدر الإمكان لمنع وصول الأطفال أو الحيوانات إليه. هذه النصيحة ليست مجرد إجراء وقائي؛ إنها القاعدة الذهبية التي تنقذ الأرواح.
في الواقع، يواجه الدفاع المدني تحدياً هائلاً. إنهم يحاولون مكافحة الجهل واليأس الاقتصادي الذي يدفع الناس إلى المجازفة. لقد صدر تحذير واضح ومباشر: “مخلفات الحرب ليست مصدراً للرزق، بل قنابل موقوتة قد تنفجر في أيّة لحظة وتشكل خطراً قاتلاً”. هذه الرسالة القوية تهدف إلى تغيير التصور الخاطئ لدى البعض بأن هذه الأجسام تمثل “كنوزاً” قابلة للبيع بدلاً من اعتبارها متفجرات متبقية.

الاقتصاد القاتل: لماذا يغامر الناس بتفكيك الألغام؟
للإجابة عن سؤال “لماذا يخاطر العمال بحياتهم لتفكيك الذخائر؟”، يجب أن ننظر إلى الواقع الاقتصادي في شمال غرب سوريا. تعيش غالبية السكان تحت خط الفقر المدقع، وتندر فرص العمل الكريمة التي توفر دخلاً ثابتاً. لذلك، يصبح جمع الخردوات والأجسام المعدنية مصدراً هامشياً، ولكنه ضروري، للعيش.
يشير الخبراء إلى أن سوق الخردة لا يميز بين قطعة معدنية عادية وبين قذيفة مدفعية. فعندما يرتفع سعر الحديد والنحاس، يزداد إغراء العمال بجمع أكبر قدر ممكن من المعادن، بما في ذلك الذخائر غير المنفجرة، لبيعها لمراكز تجميع الخردة. على الرغم من ذلك، فإن تجار الخردة أنفسهم يدركون الخطر، ولكنهم في كثير من الأحيان يتجاهلون مصدر المعدن بسبب الحاجة الاقتصادية الملحة لديهم أيضاً.
على سبيل المثال، قد تتراوح قيمة طن الخردة بين 150 و 200 دولار أمريكي في بعض المناطق، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لعائلة تعيش على أقل من دولار واحد في اليوم. هذه المفارقة المأساوية – محاولة الحصول على بضعة دولارات مقابل خطر الموت الوشيك – هي نتاج لبيئة اقتصادية مدمرة تجعل المخاطرة بالحياة تبدو خياراً منطقياً لبعض الأشخاص اليائسين.
إحصائيات 2025 القاتلة: الأثر المدمر للتلوث بالذخائر
إن تأثير هذه الذخائر لا يقتصر على حوادث فردية، بل هو أزمة وطنية واسعة النطاق. تشير الإحصائيات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في مطلع شهر تموز 2025 إلى أبعاد الكارثة. بناءً على ذلك، وخلال الفترة الممتدة من 1 كانون الثاني حتى 30 حزيران من عام 2025 وحده، قُتل ما لا يقل عن 390 مدنياً في سوريا، وكان من بينهم أكثر من 100 طفل، نتيجة مخلفات الحرب.
علاوة على ذلك، أُصيب أكثر من 500 شخص آخرين خلال نفس الفترة الزمنية، ما يعني أن الآلاف من العائلات فقدت معيلها أو بات لديها فرد من ذوي الإعاقة يحتاج إلى رعاية مدى الحياة. هذه الأرقام المخيفة تؤكد أن التلوث بالذخائر المتفجرة هو أحد أخطر التحديات الإنسانية المستمرة التي تواجه سوريا في الوقت الحالي.
يؤكد مكتب أوتشا أن التلوث بالذخائر المتفجرة “ما يزال يُخلّف آثاراً مميتة في جميع أرجاء سوريا”. هذا التأكيد يرسخ حقيقة أن المشكلة ليست محصورة في منطقة جغرافية واحدة. إذًا، فبينما نرى حوادث مروعة في حلب، هناك تقارير أخرى عن اكتشاف حقول ألغام ضخمة قرب مطار دير الزور وإتلاف أطنان من الذخائر في سهل الغاب غربي حماة، ما يدل على انتشار هذه المتفجرات المتبقية في مختلف المحافظات.
طريق النجاة: إرشادات عملية من أجل السلامة والوقاية
ما الذي يمكن للمواطن العادي فعله لتقليل خطر مخلفات الحرب غير المنفجرة في سوريا؟ السلامة تبدأ بالمعرفة والالتزام الصارم بالإرشادات. لضمان أقصى درجات الحماية لك ولأفراد عائلتك، يجب اتباع البروتوكولات التالية:
خطوات الإبلاغ الفوري عن الأجسام المشبوهة
- حافظ على مسافة آمنة: بمجرد رؤية أي جسم مشبوه (قذيفة، لغم، أو جسم معدني غير مألوف)، ابتعد عنه فوراً لمسافة لا تقل عن 50 متراً. لا تحاول الاقتراب منه لأخذ صورة أو لمسه.
- لا تلمس، لا تنقل، لا تحرك: لا تحاول أبداً نقل الجسم أو تغطيته أو التعامل معه بأي شكل من الأشكال، حتى لو بدا قديماً أو غير فعال.
- تأمين المحيط: إذا كان ذلك آمناً، استخدم علامات بسيطة (مثل الأحجار أو الأغصان أو قطعة قماش) لوضع إشارة تحذيرية مرئية حول الجسم دون الاقتراب منه. امنع الأطفال والمارة من الوصول إلى المنطقة.
- الإبلاغ الفوري: اتصل بأقرب مركز للدفاع المدني السوري (أو أي جهة مختصة بإزالة الألغام) وزودهم بمعلومات دقيقة عن الموقع الجغرافي للجسم المشبوه. من المهم جداً تحديد علامات مميزة في المحيط (شجرة، مبنى مهدم، عمود إنارة) لتسهيل الوصول إليه.
نحو مستقبل خالٍ من الألغام: الجهود الوطنية والدولية
إن التعامل مع كارثة التلوث بالذخائر يتطلب جهداً يفوق قدرة الأفراد والمنظمات المحلية وحدها. لحسن الحظ، بدأت تظهر جهود مؤسساتية أوسع نطاقاً لمكافحة هذه المتفجرات المتبقية بشكل منهجي.
مؤخراً، تم إطلاق ورشة عمل مهمة بمبادرة من وزارة الطوارئ وإدارة الكوارث بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC). عُقدت هذه الورشة في فندق الداما روز بدمشق، وكانت تهدف إلى بحث الخطوات اللازمة لتأسيس مركز وطني لمكافحة الألغام في سوريا.
يُعد تأسيس مركز وطني خطوة هائلة نحو الأمام. بالمقابل، فإن وجود مثل هذا المركز سيمكن البلاد من:
- تنسيق الجهود: توحيد جميع الجهود المحلية والدولية في مجال إزالة الألغام والذخائر.
- جمع البيانات: إنشاء قاعدة بيانات وطنية دقيقة لمواقع التلوث وخرائط الخطر.
- التدريب والتوظيف: تدريب كوادر سورية متخصصة على أعلى مستوى للتعامل مع هذه المواد الخطرة بشكل احترافي.
وبطبيعة الحال، تتطلب هذه المبادرات الدعم الدولي المستمر والتعاون التقني، لضمان أن تتحول الرؤى والأهداف إلى واقع ملموس يحمي حياة السوريين ويعيد الأمان إلى الأراضي التي كانت في السابق مناطق قتال.
الخلاصة: التوعية كخطوة أولى نحو التعافي
تظل حادثة دارة عزة تذكيراً مؤلماً بأن الحرب، حتى بعد انتهائها رسمياً، تستمر في فرض حصارها على الحياة اليومية. لقد دفع العمال الثلاثة ثمناً باهظاً لمحاولتهم تفكيك مخلفات الحرب غير المنفجرة في سوريا، لتصبح قصتهم صرخة مدوية بضرورة تكثيف حملات التوعية وتوفير بدائل اقتصادية آمنة.
إن التحدي كبير، لكن الوعي هو السلاح الأول في هذه المعركة المستمرة. يتوقف علينا جميعاً، كأفراد ومؤسسات، أن نأخذ تحذيرات الدفاع المدني على محمل الجد، وأن نبلغ فوراً عن أي أجسام مشبوهة، وأن نساهم في حماية أطفالنا ومجتمعاتنا من هذه الأخطار القاتلة. إذًا، متى سنتمكن من رؤية سوريا خالية تماماً من تهديد الألغام والذخائر المتفجرة؟ الإجابة تبدأ بالعمل المشترك اليوم.
ندعوكم للمشاركة في هذا النقاش الحيوي: هل تعتقد أن الجهود الدولية كافية لمواجهة هذا التلوث؟ شاركنا برأيك وتجربتك في التعليقات أدناه، وساهم في نشر هذا الوعي لحماية المزيد من الأرواح.