في ظل تسارع التكنولوجيا بوتيرة غير مسبوقة، تتطور الهجمات السيبرانية بسرعة مذهلة، وربما أسرع، لتبرز في مقدمتها ما يُعرف بـ “هجمات يوم الصفر – Zero-Day Attacks”، التي تعتبر قنبلة رقمية موقوتة قادرة على اختراق أكبر المؤسسات والأنظمة حول العالم دون سابق إنذار. إن خطورة هذه الهجمات تنبع من طبيعتها غير المكتشفة، حيث تستغل ثغرات أمنية تكون غير معروفة للشركات المصنعة للأنظمة أو البرامج، وبالتالي لا يتوفر لها أي ترقيع أمني، مما يجعلها السلاح المفضل في أيدي الجهات الاستخباراتية والجريمة المنظمة، وتهديداً وجودياً للأمن القومي في دول مثل سوريا التي تسعى لإعادة بناء بنيتها التحتية الرقمية.
جدول المحتويات
تعريف هجمات يوم الصفر وخطورتها الوجودية
لأجل فهم السياق الذي تعمل فيه هذه الهجمات، يشرح الدكتور محمد محسن رمضان، رئيس وحدة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني بمركز العرب للأبحاث والدراسات، التعريف التقني لهذه القنابل الرقمية. ويؤكد الدكتور رمضان أن هجمة يوم الصفر هي في جوهرها استغلال لثغرة أمنية غير معلن عنها أو غير معروفة لدى الشركات المطورة للأنظمة أو البرامج، وبالتالي لا يتوفر لها أي تحديث أو ترقيع (Patch) عند وقوع الهجوم. وتكمن خطورة هذا المفهوم في أنه يقلب الموازين بين المهاجم والمدافع، حيث يبدأ الهجوم قبل أن يمتلك الضحية أي معلومات عن الثغرة المستغلة.
ويشير الدكتور رمضان إلى أن التسمية “يوم الصفر” أتت لأن الوقت الفاصل بين لحظة اكتشاف المهاجم للثغرة ولحظة استغلالها يكون “صفر”، مما يلغي أي فرصة للدفاع التقليدي أو الاستجابة السريعة. وبمجرد أن ينجح هذا النوع من الهجمات في الوصول إلى النظام، تصبح المؤسسة عاجزة تمامًا عن التصدي، حيث تكون الحماية قد انهارت بالفعل قبل أن تبدأ أي عملية تحليل أو استجابة رسمية. ولهذا تُعدّ هجمات يوم الصفر الأكثر احترافية على الإطلاق في عالم الجريمة السيبرانية.

الثغرة اللاشعورية: ما الذي يجعل الهجوم “يوم الصفر”؟
الخطر الأكبر الذي يميز هذه الهجمات عن غيرها من الهجمات المعتادة هو عامل التخفي وطول مدة البقاء. فعندما تُكتشف ثغرة ما بشكل علني، يبدأ سباق بين الهاكرز الذين يسعون لاستغلالها قبل أن تصدر الشركة المطورة الترقيع الأمني. أما في حالة “يوم الصفر“، فإن هذه الثغرة تكون بمثابة “ثغرة لاشعورية”، تُصيب الأنظمة وتسمح بجمع بيانات حساسة، والتجسس، أو زرع برمجيات خبيثة لفترات طويلة قد تمتد لأشهر أو حتى سنوات دون أن يكتشفها النظام الأمني الروتيني.
هذا التكتيك يفضله الجيوش الإلكترونية والجهات الاستخباراتية التي تبحث عن أهداف ذات قيمة عالية وتخطط لعمليات طويلة الأمد. وغالباً ما تتطلب الثغرات المستغلة في هجمات يوم الصفر مستويات عالية من الخبرة والتمويل لاكتشافها وتطوير شفرة الاستغلال الخاصة بها، ما يؤكد أن الجهات التي تقف وراءها هي كيانات منظمة بشكل جيد وذات دوافع استراتيجية، وليسوا مجرد قراصنة فرديين.
حالة Stuxnet: عندما تصبح الهجمات سلاحاً استخباراتياً

للتدليل على خطورة هذه الهجمات، يُعد هجوم Stuxnet الذي وقع عام 2010 مثالاً تاريخياً فاصلاً. فقد استهدف هذا الفيروس البرنامج النووي الإيراني، ولم يكن مجرد هجوم لسرقة البيانات، بل كان هجوماً مصمماً لتدمير البنية التحتية المادية عن طريق استغلال ثغرات متعددة في أنظمة “ويندوز” وأنظمة التحكم الصناعي (SCADA) من Siemens.
لقد نجح Stuxnet في التسلل إلى الشبكة النووية المعزولة واستغلال أربع ثغرات من نوع هجمات يوم الصفر في آن واحد، مما سمح له بتغيير سرعة أجهزة الطرد المركزي وتدميرها فعلياً، وهو ما يمثل نقلة نوعية في مفهوم الحروب السيبرانية. أثبتت هذه الحادثة أن الهجمات السيبرانية لم تعد تقتصر على سرقة المال أو البيانات، بل أصبحت سلاحاً تدميرياً استراتيجياً يهدد الأمن القومي للدول ويمكنه أن يشعل صراعات إقليمية ودولية.
أشكال وتكتيكات هجمات يوم الصفر
تتخذ هجمات يوم الصفر أشكالاً متعددة ومبتكرة لضمان تحقيق هدفها قبل أن يُكتشف التهديد. يشرح الدكتور رمضان أن هذه الأشكال لا تقتصر على استغلال الثغرات التقنية البحتة، بل تتكامل مع تكتيكات الهندسة الاجتماعية لضمان اختراق سلس وغير مكتشف.
استغلال ثغرات تطبيقات المستخدم النهائي والهندسة الاجتماعية
يُعد استغلال الثغرات في التطبيقات والبرامج التي يستخدمها الأفراد بشكل يومي من أبرز صور هذه الهجمات. وتشمل هذه التطبيقات أنظمة التشغيل (مثل Windows و macOS)، متصفحات الإنترنت (مثل Chrome و Firefox)، وتطبيقات البريد الإلكتروني. الهدف هنا هو الوصول إلى جهاز المستخدم كبوابة لاختراق الشبكة المؤسسية الأكبر.
كما تلعب الهندسة الاجتماعية دوراً حيوياً. ففي كثير من الأحيان، يتم استخدامها لزرع الثغرة الخفية أو خداع المستخدم لفتح ملفات وروابط ضارة تبدو في الظاهر عادية تماماً. فبدلاً من اختراق جدار حماية صلب، يفضل المهاجمون استغلال العامل البشري كنقطة ضعف، مما يجعل تدريب الموظفين على الوعي الأمني أمراً لا غنى عنه. ويمكن لثغرة واحدة غير مرقعة في برنامج معالجة نصوص أو متصفح أن تفتح الباب لأخطر أنواع التجسس والاختراق.
الاستهداف المتقدم للبنى التحتية الحيوية (ICS و IoT)
تتجه الجهات المتقدمة في الجريمة السيبرانية نحو استهداف البنى التحتية الحيوية، وهي الأنظمة التي لا يمكن للمجتمع أن يعمل بدونها، مثل: شبكات الطاقة، أنظمة التحكم الصناعي (ICS) التي تدير المصانع والمصافي، ومراكز البيانات الرئيسية. إن الهجوم الناجح على مثل هذه الأنظمة قد يؤدي إلى تعطيل شبكات الكهرباء أو المياه أو الاتصالات على نطاق واسع، وهو ما يشكل خطراً مباشراً على حياة المدنيين.
علاوة على ذلك، يشهد عصرنا ازدياداً في استغلال ثغرات الأجهزة الذكية وإنترنت الأشياء (IoT)، بما في ذلك الكاميرات، أجهزة الروتر، والساعات الذكية. غالباً ما تكون هذه الأجهزة مُصنّعة بحد أدنى من متطلبات الأمن السيبراني، ما يجعلها نقاط ضعف سهلة الاستغلال لشن هجمات أوسع نطاقاً، مثل شن هجمات حرمان الخدمة الموزعة (DDoS) انطلاقاً من شبكة ضخمة من أجهزة إنترنت الأشياء المخترقة.
التداعيات الكبرى على الأمن القومي والقطاعات الحيوية
من جهته، يؤكد اللواء أبو بكر عبد الكريم، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق لقطاع الإعلام والعلاقات، على أن هجمات يوم الصفر ليست مجرد خطر تقني، بل أصبحت سلاحاً رئيساً في الحروب الحديثة وتهديدًا مباشراً للأمن القومي للدول. ويشدد اللواء عبد الكريم على ضرورة أن تستوعب المؤسسات الحكومية والخاصة هذا التحدي، قائلاً: “أصبح من الضروري للمؤسسات الحكومية والخاصة الاستثمار في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي التحليلي لكشف الثغرات قبل وقوعها. الوقاية في هذا العصر ليست خيارًا، بل حماية وجودية رقمية.”
وتشمل مخاطر هذه الهجمات على الصعيد الوطني والإقليمي ما يلي:
- اختراق الأنظمة الحساسة وسرقة البيانات: مثل بيانات السجلات المدنية، أو قواعد بيانات الوزارات الحيوية، مما يعرض خصوصية المواطنين وسيادة الدولة للخطر.
- زرع برمجيات تجسس ورصد أنشطة المستخدمين: تستخدم الجهات المعادية هذه الثغرات لتعطيل الخدمات أو تدمير البنية التحتية الرقمية في لحظة زمنية محددة يتم اختيارها بدقة لتحقيق أقصى تأثير.
- التحكم عن بعد في الأجهزة وتعطيل الخدمات: يمكن للمهاجمين التحكم في الأجهزة عن بعد وتنفيذ أوامر تدميرية بدون علم الضحية.
- خسائر مالية فادحة وضرر كبير بالسمعة: تقدر الخسائر المالية الناجمة عن هجوم ناجح ليوم الصفر بملايين الدولارات، ناهيك عن الأضرار غير الملموسة التي تلحق بسمعة وثقة المؤسسات في قدرتها على حماية معلوماتها.
السوق السوداء لثغرات الـ Zero-Day ومخاطرها المالية
يكشف اللواء عبد الكريم عن جانب مظلم آخر وهو التجارة بثغرات “يوم الصفر”. ويشير إلى أن تكلفة استغلال ثغرة يوم الصفر في السوق السوداء قد تتجاوز مليون دولار للثغرة الواحدة، نظراً لقيمتها العالية في عالم الجريمة الإلكترونية والتجسس. هذه الأسواق السرية تديرها مجموعات متخصصة تبيع أدوات الاختراق للجهات الأعلى سعراً، سواء كانت حكومات أو عصابات إجرامية منظمة تسعى للثراء غير المشروع أو التجسس الاقتصادي.
بالنسبة لسوريا في مرحلة إعادة البناء، فإن الاستهداف محتمل من قبل مجموعات تحاول عرقلة النمو أو التجسس على العقود والمشاريع الاستثمارية. لذا، فإن تأمين البيانات الحكومية والقطاع الخاص يمثل خط دفاع أول عن السيادة الاقتصادية للبلاد.

الخسائر غير الملموسة: الضرر بالسمعة والثقة
إلى جانب الخسائر المادية المباشرة، هناك خسائر لا تقل أهمية وهي المتعلقة بالسمعة والثقة. عندما تُخترق مؤسسة نتيجة لهجوم يوم الصفر، فإن هذا لا يؤدي فقط إلى نزيف مالي، بل يزعزع الثقة في قدرة هذه المؤسسة على العمل بشكل آمن. هذا التآكل في الثقة يمكن أن يؤثر على العلاقات الدولية، وعلى ثقة المستثمرين في بيئة الأعمال السورية، وعلى ثقة المواطنين في الخدمات الرقمية التي تقدمها الدولة.
إن استعادة هذه الثقة بعد هجوم كبير قد تستغرق سنوات وجهوداً مكلفة للغاية، ما يجعل الوقاية الأمنية استثماراً بعيد المدى في الاستقرار العام.
استراتيجيات الدفاع المتقدمة: التحول من الاستجابة إلى الاستباق
رغم الطبيعة المعقدة والمخفية لهذه الهجمات، فإن الاستسلام للأمر الواقع ليس خياراً. يجب على المؤسسات السورية أن تتبنى استراتيجيات دفاعية متحولة تعتمد على الاستباق بدلاً من الاستجابة المتأخرة. تؤكد الدكتورة لينا خوري، خبيرة القانون السيبراني والأمن الدولي، على أهمية الشراكة بين القطاع العام والخاص في هذا المجال.
وتشير الدكتورة خوري: “في السياق السوري، لا يمكن الاعتماد فقط على الحلول التقليدية. يجب تأسيس إطار قانوني صارم يُلزم المؤسسات الحيوية بتطبيق أعلى معايير أمن المعلومات، والعمل على بناء ‘صندوق رمل’ وطني (National Sandbox) لاختبار وتطوير ترقيعات محلية للثغرات المكتشفة، بالتعاون مع مجتمع القراصنة الأخلاقيين السوريين في الداخل والمهجر. إن الأمن السيبراني يجب أن يُدرج كبند أساسي في أي قانون لإعادة الإعمار أو الاستثمار.”
أهمية الوعي السيبراني والبروتوكولات الوقائية
تظل الحماية من هجمات يوم الصفر تبدأ بالبنيان الأساسي، أي المستخدم والأنظمة المعتادة. لذا، لابد من اتباع الإجراءات التالية لتقليل المخاطر:
- تحديث الأنظمة والتطبيقات بشكل دوري: على الرغم من أن التحديثات لا تحمي من ثغرات “يوم الصفر” الحالية، إلا أنها تسد الثغرات المكتشفة مسبقاً، مما يقلل من المساحة التي يمكن للمهاجم العمل من خلالها.
- إجراء اختبارات اختراق دورية (Penetration Testing): يجب على المؤسسات دفع فرق القراصنة الأخلاقيين لاكتشاف الثغرات داخلياً قبل أن يستغلها المهاجمون الخارجيون.
- اعتماد سياسات أمن سيبراني صارمة: وتدريب الموظفين بشكل مستمر على الوعي الأمني ومكافحة الهندسة الاجتماعية والتعرف على رسائل البريد المشبوهة.
- استخدام نظم النسخ الاحتياطي المشفر والمنفصل (Off-site Backups): لضمان القدرة على استعادة البيانات والأنظمة في حال نجاح أي اختراق، خاصة هجمات الفدية التي تتزايد خطورتها.
دور الذكاء الاصطناعي في الكشف عن السلوك غير الطبيعي
السبيل الأكثر فعالية لمواجهة هجمات يوم الصفر يكمن في استخدام التكنولوجيا للكشف عن النوايا بدلاً من الاعتماد على تواقيع الفيروسات المعروفة. هنا يبرز دور حلول كشف السلوك غير الطبيعي (Behavioral Security)، مثل أنظمة EDR (Endpoint Detection and Response) و XDR (Extended Detection and Response).
تعمل هذه الأنظمة على مراقبة سلوك النظام بشكل مستمر وتحليل البيانات الهائلة باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي للكشف عن أي انحراف عن السلوك الطبيعي للمستخدم أو للبرنامج. فإذا بدأ برنامج نصوص عادي فجأة في محاولة الوصول إلى سجلات النظام الحساسة أو تشفير الملفات، سيتم التعرف عليه كتهديد محتمل حتى لو لم يكن للهجوم بصمة معروفة، وبالتالي يتم “كشف الاختراق” حتى لو لم يكن الترقيع متاحاً بعد.
خاتمة التحليل: تظل هجمات يوم الصفر قنبلة رقمية تهدد كل المؤسسات والأفراد على حد سواء، وتشكل تحدياً مضاعفاً للدول التي تعاني من بنية تحتية رقمية ضعيفة أو متقادمة مثل سوريا. إن الاستثمار في الأمن السيبراني القائم على الذكاء الاصطناعي والاستباقية الأمنية، بالإضافة إلى الالتزام القانوني والمؤسساتي، لم يعد رفاهية، بل أصبح ضرورة استراتيجية للحماية من أخطار العصر الرقمي وضمان نجاح عملية إعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
المصدر: جميع الاقتباسات والمعلومات متوافقة مع المصادر المذكورة: الدكتور محمد محسن رمضان، اللواء أبو بكر عبد الكريم، والدكتورة لينا خوري (خبير قانون وأمن سيبراني دولي).
